[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائية السورية مها حسن
لا أعتقد أن الكتابة في زمن الانقلابات الكبرى، واشتداد العنف، هي طوق نجاة، إنما بالعكس، قد تكون القارب الذي يرمي الكاتب فيه نفسه، ليختلط بالعالم المتخبّط بكل مافيه من عنف وقسوة ومآسي، ليكون أقرب إلى هذا العالم، ويدوّنه.
الكتابة في السلم والاسترخاء، قد تكون طوق نجاة، حيث العالم حولنا آمن، أما في الحروب، أمام آلات القتل الضخمة، فالكاتب يدرك قلّة حيلته، وهو يكتب فقط لأنه لا يملك سوى الكتابة. يعرف أغلبنا أن كتابته لن تغيّر المشهد، ولن توقف القتل، ولن يستمع إليه أحد.. لكنه كذلك البطل الإغريقي المحكوم عليه بحمل الصخرة صوب القمة، يحمل كتابته، ويحاول الصعود بها.
الكاتب السوري الآن، هو هذا السيزيف، المحكوم عليه بالحياة، ومتابعة تدوينها، منتظرًا انتهاء العقوبة الجماعية على الشعب االسوري، ليتوقف عن كتابة لاهثة، خائفة، مضطربة.
إن الكتابة في هذا الزمن الاستثنائي المعقّد، خيار صعب جدًا، خيار يُواجه باللاجدوى في كل لحظة، لهذا ثمة كتّاب لم يستطيعوا الكتابة، فمالوا إلى الصمت والتأمل. لا يجب أن نتعامل مع الكاتب كبطل خارق، قادر على الاحتفاظ برصانته ودمه البارد ليجلس خلف حاسوبه أو أوراقه ويدوّن، بينما العالم يتساقط حوله، هذه مبالغات في تأليه الكاتب، الذي هو في العمق كائن هشّ وضعيف، يذهب إلى الكتابة، كخيار وحيد، حتى يمارس موقفه الأخلاقي، في زمن الانهيارات الكبرى.
أعتقد أن الرواية السورية في الفترة الأخيرة، قدّمت نماذج مهمة عن الكتابة الجديدة في المشهد السوري، هناك اجتهادات وتقنيات جديدة على الكتّاب أنفسهم، الذين سبق لهم الكتابة، قبل السنوات الخمس الأخيرة، وهؤلاء أنفسهم، لاحظوا تجديدًا على كتابتهم. ويجب أن لا ننسى أو نتجاهل، أن هناك أعمالًا قيد الكتابة الآن، ربما يحتاج أصحابها إلى المزيد من الوقت لإطلاقها، كما أن هناك كتّابًا يعانون من صعوبة نشر أعمالهم، حتى إن كانوا مكرسين في المشهد الروائي، بسبب آليات النشر والتخوّف من الجرأة السياسية لبعض هذه الأعمال.
أما عن الحرية، وأن الحدث السوري أزال غشاوة القمع، فهذا لم يحدث بعد برأيي. لا يزال الكاتب السوري أسير المشهد الآني، ولا يزال لدينا الكثير من التابوات، فإن كنا قد تخلصنا من تابو السلطة الرسمية، ومن الخوف من النظام، إلا أن ثمة تابوات جديدة، نشأت بفعل المشهد الدموي القائم في سوريا، وليس علينا أن نكون رومانسيين وعاطفيين في تخيّل الآثار الإيجابية للتخلص من الخوف من النظام، وتجنب الحديث عن الخوف من الطرف الآخر. هناك (رقابة) يمارسها المثقف على المثقف الآخر، وهناك سلطات لا مرئية يمارسها جمهور غاضب، مقهور، محطّم، يطلب من الكاتب، بطريقة ما، أن يعمي الكاتب إحدى عينيه، ويرى بعين واحدة.
الكتابة في هذه الظروف، هي حقل ألغام لا يمكن للكاتب النجاة منه، ثمة لغم سينفجر في هذا الحقل المُفخخ من عدة أطراف، فإن نجونا من لغم النظام، سنقع في ألغام أخرى، ولا أريد أن أطرح أمثلة، عن كتّاب أو كاتبات، عُرفوا بمواقفهم الواضحة من النظام، لكنهم تعرضوا للنقد والتعريض بهم، من قبل جهات محسوبة على المعارضة.
على الأدب برأيي أن يكون أخلاقيًا أولًا، وخلاّقًا ثانيًا، وأنا أعتقد أن الجمع بين الصفتين هي الوصفة المثالية للكتابة الجيدة، ولكي نكون أخلاقيين، ينبغي دائمًا ألا نفقد البوصلة الإنسانية، والوقوف مع الضحايا، أيًّا كانت أماكنهم.
على الكاتب التحلّي بأكبر طاقة ممكنة من الهدوء وعدم الانجراف العاطفي خلف الضحية، ليكون قادرًا على الإلمام بالمشهد كاملًا، وهذا صعب جدًا التمتع به وقت وقوع الحدث، إذ كما قلتُ في مشاركتي في ملتقى الرواية العربية المنعقد في أواخر نيسان/ إبريل الماضي في بيروت، بأن السوريين لم يقيموا حدادهم بعد، ولا تزال الجثة طازجة أمام الكاتب، لهذا فكتابتنا ملتبسة ومشوشة أحيانًا بحكم المسافة شبه الملتصقة مع الحدث.
إلا أن هذه الكتابة، من مسافة الدم الساخن والأنفاس المتوقفة للتوّ للبطل المكتوب عنه، السوري الذي صار أغلبه مشروع موت محتمل، فإن لهذه الكتابة، على عيوبها إن صح الوصف، قيمة إبداعية وإنسانية عالية، فالكتابة في الزمن الصعب، هي توثيق للزمن وللكتابة معًا. إن هذا، وإن كان الكلام باكرًا فيه، يوثّق للشعوب الأخرى، وللشعب السوري في نفس الوقت، كيف اتّصفت الكتابة في زمن العنف والخراب، دون تنظيرات عن هذا النوع من الكتابة. بل عبر عيّنات حقيقية، مأخوذة من النصوص التي نشأت في هذه الحروب المهلكة.
إن الكتابة في هذا الوقت، هي ضوء صغير، يتمسك به الكاتب، كأنه يسير في نفق، (لأستعير عنوان روايتي "نفق الوجود")، فتصبح الكتابة، هي الفعل الوجودي الوحيد، المتشبث بالكون في نفق الموت الطويل، حيث الكتابة هي بعض الضوء الذي قد يخدع البعض منا أنفسهم بالإيمان، أنه في نهاية النفق، ثمة وجود.
*************
مها حسن في سطور:
ولدت الكاتبة والروائية السورية الكردية مها حسن، في مدينة حلب عام 1966 في أسرة كردية بسيطة. أنهت مراحلها الدراسية الأساسية والتحقت بجامعة حلب لدراسة الحقوق وحصلت على إجازة فيها. وهي مقيمة في باريس منذ سنوات.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكانت "حسن" في التاسعة والعشرين من عمرها، انتهت من كتابة روايتها الأولى "اللامتناهي - سيرة الآخر".
وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة "بوكر" العربية مرتين 2011 و2015 من خلال روايتيها "حبل سري" و"الراويات".
وكان أن شاركت في التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود حول حرية الصحافة في سوريا لعام 2004. وحصلت على "جائزة هيلمان/ هامت" التي تنظمها منظمة "هيومن رايتس ووتش" الأمريكية عام 2005.
وتعد صاحبة "الروايات" من الأصوات المجددة في السرد الروائي السوري والعربي، بفضل حسها ووعيها بالجماليات السردية، واشتغالها على ذلك بحرفية عالية متسلحة بأدوات معرفية وثقافة واسعة نهلت من قوميات وانتماءات دموية وثقافات وعوالم متعددة، ما مكنها من تشكيل نسيج كتابي يمتلئ بالحكايات المحبوكة بمقدرة عالية.. وهي– كما يرى النقاد – ممن أضفنّ إلى جنس الرواية العربية مضامين ذات خصوصية أنثوية قلما يغامر فيها الروائيون الذكور، رغم تأكيدها لنا أنها ليست مع مصطلحات تفصل الإبداع وتصنّفه وفق صاحبه.
وتعتبر صاحبة "حبل سري"، من أكثر الكاتبات والكتّاب السوريين كتابة عن الثورة وتواصلًا مع الأوضاع المأسوية التي تشهدها سوريا منذ نيف وأربع سنوات جراء الظلم والطغيان والاستبداد وما تولد عنهم من حرب طاحنة دمرت عمران ربع البلد وشردت الملايين من السوريين في أصقاع الأرض..
ومنذ بدايات الثورة التي بدأت حراكًا شعبيًا سلميًا سرعان ماتحول إلى نزاع مسلح أفضى إلى صراعات دموية متعددة الأطراف والهويات، لم تخف صاحبة "تراتيل العدم" موقفها الرافض لـ"العسكرة"، حيث أعلنت على لسان بطلة روايتها "طبول الحب" (2012)، أنه "لا لعسكرة الثورة.. أنا ضد كل ما هو تسليح وعسكرة وعنف. العنف يجلب العنف وتسليح الثورة يعني أن يقتل السوري أخاه السوري..".
صدر لها من الروايات:
- "اللامتناهي - سيرة الآخر"، دار الحوار، اللاذقية 1995.
- "لوحة الغلاف: جدران الخيبة أعلى"، دار عبد المنعم – ناشرون، حلب 2002.
- "تراتيل العدم"، دار رياض الريّس، بيروت 2009.
- "حبل سري"، دار رياض الريّس، بيروت 2010.
- "بنات البراري"، دار رياض الريّس، بيروت 2011.
- "طبول الحب"، دار رياض الريّس، بيروت 2012.
- "الراويات"، دار التنوير، بيروت 2014.
- "نفق الوجود"، دار رياض الريّس، بيروت 2014.
- "مترو حلب"، دار التنوير، بيروت 2016.